2012/06/28

النوازل والتعامل بالحكمة

مقطتفات من النوازل والتعامل بالحكمة

في الليلة الظلماء يُفتقَد البدر، وما هو هذا البدر الذي سيمحُو ظلمة التحارُش والتهارُش، واللَّمزِ والغَمْزِ، إن هذا البدر
هو: الحكمة
، الحكمة الغائبة في ظل الخلافات المُتفتِّقة، الحكمة التي تقود الرَّكب إلى برِّ الأمان والنجاة من الهلَكَة، الحكمة التي يفتقِرُ إليها كلُّ مجتمعٍ ينشُدُ الفلاح لتُرتِّب لهم قائمة الأولويات ودرجات المصالح ودرَكَات المفاسِد، الحكمة التي لا تُوجَد إلا في مُستودَع المرء الصفيّ النقيّ الصادق العامل، والعالِم الواعي، والسياسيّ المُحنَّك العارف بواقعه وحال مجتمعه، المُخلِص لربِّه، المُتَّبِع لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، الحريصِ على استقرار مجتمعه ووطنه

والحكمةُ كلُّها خيرٌ، ولا تأتي إلا بخيرٍ، ولم يأتِ ذِكرُها على وجه الذمِّ قطّ، لا في كتاب الله ولا سنة رسول - صلى الله عليه وسلم - ولا في كلام السابقين.
والناس ثلاثة: حكيمٌ، ونزِقٌ، وجاهلٌ؛ فالحكيم الدينُ شريعتُه، والرأيُ الحسن سجيَّتُه، وأما النَّزِق فإن تكلَّم عجِل، وإن حدَّثَ أخطأ، وأما الجاهل فإن حدَّثتَه شانَك، وإن وثِقتَ به لم يرْعَك.



ولذا عندما يكون الحَدَثُ مُشوَّشًا مُتنازَع الهويَّة، غامِضَ المآلات، فإن البُسطاء هم أول من يتَّبِعه، ويسيرُ في رِكابه، ويلهَثُ وراءه، فيسيرون كأسراب طيرٍ يتبَع بعضُهم بعضًا، يتفقِرون إلى الحكمة التي هي مزيجٌ يتفاعلُ فيه العلمُ مع الواقع المُتفتِّح على حركة المُجتمعات في الحياة، لتُصبِح عنصرًا مُتجدِّدًا يُلاحِقُ الحياة في آفاقها وخُطواتها، ليتبلور من خلالها الرأيُ السديد والأسلوبُ العملي الذي يتلاءَمُ مع الذهنية العامة للمجتمع بكافة مسؤولياته.

ومن هنا تبرزُ الشخصيةُ الحكيمة التي تُفكِّرُ بحسابٍ، وتعمل بحسابٍٍ، وتلجُم الانفعال والحماسَ والخمولَ والاستكانة بلجامٍ من عقلٍ وفكرٍ واتِّزان.



ولقد بلَغَت الحكمةُ من التشويه مبلغًا جعلت الرامِقَ ببصيرته من بعيد لا يُخرِجُها من خلال ما يُطرَح عن دائرة الغلوِّ تارةً، والتفلُّت تاراتٍ أخرى، والمصادرةِ لها ونقضِ العُرى بها تارةً أخرى، ليدَعُوا الحليم حيران حتى حجبَ كثرةُ صراخهم أصواتَ الحكماء، فأضحَت غير مسموعةٍ وصت أهازيج الفُرقاء، ثم باتَت تلك الأصوات حبيسةَ حناجر الحكماء فحسبُ.
وإلا فما ظنُّكم بمجتمعٍ ترتفعُ فيه أصواتُ الحكماء، أترونَه سيُعاني من تهارُش بني مجتمعه؟! أترونه يضِلُّ طريقَه؟! أترَونَه يكثُر فيه الطلاقُ والغِشُّ والظلم والأَثَرة والنِّزاع؟! كلا، وألف لا.
وفي الطرف المُقابل لذلكم كله: فإنه ينبغي التوقِّي والحَذَر من الوقوع في الحكمة الزائفة المُذوَّقة التي لا تستنِدُ إلى علمٍ ولا هُدًى ولا منطق، وإنما تنطلقُ من مواقف ضعفٍ مُثبِّطة، أو من دوافع عنفٍ مُرجِفة، بقطع النظر عن العواقِب والمآلات، وألا تُغرِيَنا العُقول والأفهامُ لتجعلَنا حُكَّامًا على كتابِ ربنا وسنةِ نبينا - صلى الله عليه وسلم - لا محكومين بهما، وألا تكون عقولنا - أيضًا - قادةً وحيدةً في فرزِ ما يصِحُّ وما لا يصِحُّ.



وحَذَارِ حذارِ من الحكمة المُقنَّعة التي تُصافِحُ عقولَ البُسطاء بقُفَّازٍ ليس مخيطًا لها، ولنلتمِس الحكمة التي أرادها الله لنا في قوله:
 ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125]،
 فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت: 34].
ولنلتمِس الحكماء الذين يُجيدون فرزَ المصالحِ والمفاسِد، الحُكماء الذين يعُونَ قيمةَ المصلحةِ العُليا، المُؤسَّسة للتوافُق لا للتنابُز، والتقابُل لا التدابُر، الحكماء الذين يلزَمون أعلى المصلحتين، ويتقون أعلى المفسدتين، وعند التعارُض الصِّرْف لا يُساوِرهم شكٌّ البَتَّة في أن درءَ المفاسد مُقدَّمٌ على جلب المصالح، ولذا قيل: ليس الحكيم الذي يعلمُ الشر من الخير، ولكن الحكيم هو الذي يعلمُ خيرَ الخيرَيْن وشرَّ الشرَّيْن، لا أن يكون كالريشة في مهبِّ الريح إن شرَّقَت شرَّق، وإن غرَّبَت غرَّب .